سورة النساء - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}
{واللذان يأتيانها مِنكُمْ} هما الزاني والزانية بطريق التغليب، قاله السدي وابن زيد وابن جبير، أراد بهما البكران اللذان لم يحصنا، ويؤيد ذلك كون عقوبتهما أخف من الحبس المخلد، وبذلك يندفع التكرار لكن يبقى حكم الزاني المحصن غير ظاهر. وقرأ ابن كثير {واللذان} بتشديد النون وهي لغة وليس مخصوصًا بالألف كما قيل بل يكون مع الياء أيضًا وهو عوض عن ياء الذي المحذوف إذ قياسه اللذيان والتقاء الساكنين هنا على حده كما في دابة وشابة {فَئَاذُوهُمَا} أي بعد استشهاد أربعة شهود عليهما بالإتيان، وترك ذكر ذلك تعويلًا على ما ذكر آنفًا، واختلف في الإيذاء على قولين: فعن ابن عباس أنه بالتعيير والضرب بالنعال، وعن السدي وقتادة ومجاهد أنه بالتعيير والتوبيخ فقط {فَإِن تَابَا} عما فعلا من الفاحشة بسبب الإيذاء كما ينبىء عنه الفاء {وَأَصْلَحَا} أي العمل. {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي اصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما {إِنَّ الله كَانَ تَوَّابًا} مبالغًا في قبول التوبة {رَّحِيمًا} واسع الرحمة والجملة في معرض التعليل للأمر بالإعراض، والخطاب هنا للحكام، وجوز أن يكون للشهود الواقفين على فعلتهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى القضاة والجر إلى الولاة وفتح باب الشر عليهما، وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بذلك، والوجه الأول هو المشهور، والحكم عليه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور أيضًا عند الحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن جبير وغيرهم، وإلى ذلك ذهب البلخي والجبائي والطبري وقال الفراء: إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها، وهذا مما لا يتمشى على القول بأن المراد بالموصول البكران كما لا يخفى، وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ لحكم الآيتين بل الآية الأولى في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس، والآية الثانية في اللائطين وحدهما الإيذاء، وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور، وزيف هذا القول بأن لم يقل به أحد، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك، وأيضًا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا، فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن اختلاط بعضهنّ ببعض لا الحبس والمنع من الخروج، فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتي يأتين الفاحشة الزانيات، وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد وهو من أكابر المفسرين المتقدمين وقد قال غير واحد: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك على أنه تبين في الأصول أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز، وبأن مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك، وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح حدًا ولا بيانًا للكمية فلذا اختلفوا، وبأن المراد من إمساكهن في البيوت حبسهن فيها واتخاذها سجنًا عليهن ومن حال المسجون منع من يريد الدخول عليه وعدم تمكينه من الاختلاط، فكان الكلام في قوة فامنعوهنّ عن اختلاط بعضهن ببعض على أن الحبس المذكور حد، وليس المقصود منه إلا الزجر والتنكيل، وأيد مذهبه بتمحيض التأنيث في الآية الأولى والتذكير في الآية الثانية، والتغليب خلاف الأصل، ويبعده أيضًا لفظ منكم فإن المتبادر منه من رجالكم كما في قوله تعالى: {أَرْبَعةً مّنْكُمْ} [النساء: 15] وأيضًا لو كان كل واحدة من الآيتين واردًا في الزنا يلزم أن يذكر الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وأنه تكرير لا وجه له، وأيضًا على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيتين بل يكون حكم كل واحد منهما مقررًا على حاله، وعلى ما قاله الغير يحتاج إلى التزام القول بالنسخ وهو خلاف الأصل، وأيضًا على ما قالوه يكون الكتاب خاليًا عن بيان حكم السحاق واللواطة، وعلى ما قلناه يكون متضمنًا لذلك وهو الأنسب بحاله، فقد قال سبحانه: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء} [الأنعام: 38]، و{تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء} [النحل: 89] وأجيب بأنا لا نسلم أن هذا قول لمجاهد، ففي مجمع البيان أنه حمل اللذان يأتيانها على الرجلين الزانيين، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنهما الفاعلان وهو ليس بنص على أنهما اللائطان على أن حمل {اللاتى} في الآية الأولى على السحاقات لم نجد فيه عنه رواية صحيحة بل قد أخرجوا عنه ما هو ظاهر في خلافه، فقد أخرج آدم والبيهقي في سننه عنه في تلك الآية أنه كان أمر أن يحبس ثم نسختها {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] وما ذكر من العلاوة مسلم لكن يبعد هذا التأويل أنه لا معنى للتثنية في الآية الثانية لأن الوعد والوعيد إنما عهدا بلفظ الجمع ليعم الآحاد أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس ولا نكتة للعدول عن ذلك هنا على تقرير أبي مسلم بل كان المناسب عليه الجمع لتكون آية اللواطة كآية السحاق، ولا يرد هذا على ما قرره الجمهور لأن الآية الأولى عندهم للإناث الثيبات إذا زنين، والآية الثانية للذكر البكر والأنثى البكر إذا زنيا فغوير بين التعبيرين لقوة المغايرة بين الموردين، ويحتمل أيضًا أن تكون المغايرة على رأيهم للإيذان بعزة وقوع زنا البكر بالنسبة إلى وقوع زنا الثيب لأن البكر من النساء تخشى الفضيحة أكثر من غيرها من جهة ظهور أثر الزنا، وهو زوال البكارة فيها ولا كذلك الثيب، ولا يمكن اعتبار مثل هذه النكتة في المغايرة على رأي أبي مسلم إذ لا نسلم أن وقوع اللواطة من الرجال أقل من وقوع السحاق من النساء بل لعل الأمر بالعكس، وكون مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك والإيذاء لا يصلح حدًا ولا بيانًا للكمية ليس بشيء كما يرشد إلى ذلك أن منهم من لم يوجب عليه شيئًا، وقال: تؤخر عقوبته إلى الآخرة، وبه أخذ الأئمة رضي الله تعالى عنهم على أنه أي مانع من أن يعتبر الإيذاء حدًا بعد أن ذكر في معرض الحدّ وتفوض كيفيته إلى رأي الإمام فيفعل مع اللوطي ما ينزجر به مما لم يصل إلى حد القتل؛ وكون الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض في غاية الخفاء كما لا يخفى.
نعم ما في حيز العلاوة مما لا بأس به، وما ذكر من أن التغليب خلاف الأصل مسلم لكنه في القرآن العظيم أكثر من أن يحصى، واعتباره في منكم تبع لاعتباره في اللذان وذكر مثله قبل بلا تغليب فيه را يؤيد اعتبار التغليب فيه ليغاير الأول فيكون لذكره بعده أتم فائدة ألا ترى كيف أسقط من الآية الثانية الاستشهاد مع اشتراطه إجماعًا اكتفاءًا بما ذكر في الآية الأولى لاتحاد الاستشهادين في المسألتين، ودعوى لزوم التكرار في الموضع الواحد على رأي الجمهور ليست في محلها على ما أشرنا إليه في تفسير الآية، ودعوى الاحتياج إلى التزام القول بالنسخ لا تضر لأن النسخ أمر مألوف في كثير من الأحكام، وقد نص عليه هنا جماعة من الصحابة والتابعين على أن في كون فرضية الحدّ نسخًا في الآية الأولى مقالًا يعلم مما قدمناه في البقرة، وإذا جعل {أَوْ يَجْعَلَ} [النساء: 15] إلخ معتبرًا في الآية الثانية إلا أنه حذف منها اكتفاءًا بما في الأولى كما يشير إلى ذلك خبر عبادة بن الصامت جرى المقال في الآيتين ولزوم خلو الكتاب عن بيان حكم السحاق واللواطة على رأي الجمهور دون رأيه في حيز المنع أما على تقدير تسمية السحاق واللواطة زنا فظاهر، وأما على تقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما، وكم حكم ترك التصريح فيه في الكتاب اعتمادًا على القياس كحكم النبيذ، وكحكم الجد وغيرهما اعتمادًا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وأنه ما فرط فيه من شيء، ومن ادعى أن جميع الأحكام الدينية مذكورة في القرآن صريحًا من غير اعتبار قياس، فقد ارتكب شططًا وقال غلطًا، وبالجملة المعول عليه ما ذهب إليه الجمهور، ويد الله تعالى مع الجماعة، ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد حل إلا أنه لم يعوّل عليه ولم تحط رحال القبول لديه، وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الاعتصام.


{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)}
ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك بيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه.
{إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} أي إن قبول التوبة، وعلى وإن استعملت للوجوب حتى استدل بذلك الواجبة عليه، فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواحبات كما يقال: واجب الوجود، وقيل: على عنى من، وقيل: هي عنى عند، وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند الله {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء} أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، والتوبة مبتدأ، وللذين خبره، وعلى الله متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو حذوف وقع حالًا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرًا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفًا وجعله بعضهم على حدّ هذا بسرًا أطيب منه رطبًا، وجوز أن يكون على الله متعلقًا حذوف وقع صفة للتوبة أي إنما التوبة الكائنة على الله وللذين هو الخبر، وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، وذكر أبو البقاء احتمال أن يكون على الله هو الخبر، وللذين متعلقًا حذوف وقع حالًا من الضمير المستكن في متعلق الخبر، ويحتمل أن يكون متعلقًا بما تعلق به الخبر، ولا يخفى أن سوق الآية يؤيد جعل للذين خبرًا كما لا يخفى على من لم يتعسف.
{بجهالة} حال من فاعل يعملون أي يعملون السوء متلبسين بها، أو متعلق بيعملون والباء للسببية، والمراد من الجهالة الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافًا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب، وغيره: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى به فهو جهالة عمدًا كان أو غيره، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه: كل ذنب عمله العبد وإن كان عالمًا فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه، فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليه السلام لأخوته: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون} [يوسف: 89] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى، وقال الفراء: معنى قوله سبحانه: {بِجَهَالَةٍ} أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة.
وقال الزجاج: معنى ذلك اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية.
{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبىء عنه ما سيأتي من قوله تعالى: {حتى إِذَا حَضَرَ} [النساء: 18] إلخ يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذه وأهوى بيده الشريفة إلى حلقه تاب الله تعالى عليه» وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وَثَمّ أبو قلابة فحدث أبو قلابة قال: إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم الدين فقال وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت، وروى مثله عن الضحاك، وعن عكرمة الدنيا كلها قريب وعن الإمام القشيري القريب على لسان أهل العلم قبل الموت، وعلى لسان أهل المعاملة قبل أن تعتاد النفس السوء ويصير لها كالطبيعة، ولعل مرادهم أنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول، وإن لم يمتنع قبول توبته، و{مِنْ} تبعيضية كأنه جعل ما بين وجود المعصية وحضور الموت زمانًا قريبًا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان تاب فهو تائب في بعض أجزاء زمان قريب، وجعلها بعضهم لابتداء الغاية. ورجح الأول بأن من إذا كانت لابتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور، والذي لابتدائيته مذ ومنذ، وفي الإتيان بثم إيذان بسعة عفوه تعالى.

{فَأُوْلَئِكَ} أي المتصفون بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد، وجوز أن يكون ذلك إيذانًا ببعد مرتبتهم ورفعة شأنهم من حيث إنهم تائبون، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، والفاء للدلالة على السببية، واسم الإشارة مبتدأ خبره قوله تعالى: {يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم، وهذا وعد بالوفاء بما وعد به سبحانه أولًا فلا تكرار، وضمن {يَتُوبُ} معنى يعطف فلذا عدي بعلى. وجوز أن يكون ذلك من المذهب الكلامي كأنه قيل: التوبة كالواجب على الله تعالى، وكل ما هو كالواجب عليه تعالى كائن لا محالة فالتوبة أمر كائن لا محالة فالآية الأولى واقعة موقع الصغرى والكبرى مطوية، والآية الثانية واقعة موقع النتيجة.
{وَكَانَ الله عَلِيمًا} فيعلم باخلاص من يتوب {حَكِيمًا} فلا يعاقب التائب، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم.


{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}
{وَلَيْسَتِ التوبة} على الله {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} أي المعاصي وجمعت باعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديد لا لأن المراد بها جميع أنواعها وا مر من السوء نوع منها {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال وعاين ملك الموت وانقطع حبل الرجاء {قَالَ إِنّى تُبْتُ الئان} أي هذا الوقت الحاضر، وذكر لمزيد تعيين الوقت، وإيثار قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار والتحاشي عن تسميته توبة، ولو أكده ورغب فيه، ولعل سبب ذلك كون تلك الحالة أشبه شيء بالآخرة بل هي أول منزل من منازلها، والدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، وحتى حرف ابتداء، والجمل الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي ليست التوبة لقوم يعملون السيئات إلى حضور موتهم، وقولهم: كيت وكيت.
{وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} عطف على الموصول قبله أي ليس قبول التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، والمراد من ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم رأسًا المبالغة في عدم قبول توبة المسوّفين والإيذان بأن وجودها كالعدم بل في تكرير حرف النفي في المعطوف كما قيل إشعار خفي بكون حال المسوّفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر والكثير من أهل العلم على أن المراد بالذين يعملون السيئات ما يشمل الفسقة والكفرة، ومن الذين يموتون إلخ الكفار فقط، وجوز أن يراد بالموصولين الكفار خاصة، وأن يراد بهما الفسقة وحدهم، وتسميتهم في الجملة الحالية كفارًا للتغليظ، وأن يراد بهما ما يعم الفريقين جميعًا فالتسمية حينئذ للتغليب، وأخرج ابن جرير عن الربيع وابن المنذر عن أبي العالية أن الآية الأولى: نزلت في المؤمنين والثانية: في المنافقين، والثالثة: في المشركين، وفي جعل الوسطى في المنافقين مزيد ذمّ لهم حيث جعل عمل السيئات من غيرهم في جنب عملهم نزلة العدم، فكأنهم عملوها دون غيرهم، وعلى هذا لا يخفى لطف التعبير بالجمع في أعمالهم، وبالمفرد في المؤمنين لكن ضعف هذا القول بأن المراد بالمنافقين إن كان المصرين على النفاق فلا توبة لهم يحتاج إلى نفيها، وإلا فهم وغيرهم سواء.
هذا واستدل بالآية على أن توبة اليائس كإيمانه غير مقبول، وفي المسألة خلاف فقد قيل: إن توبة اليائس مقبولة دون إيمانه لأن الرجاء باق ويصح معه الندم، والعزم على الترك، وأيضًا التوبة تجديد عهد مع الرب سبحانه، والإيمان إنشاء عهد لم يكن وفرق بين الأمرين، وفي «البزازية» أن الصحيح أنها تقبل بخلاف إيمان اليائس، وإذا قبلت الشفاعة في القيامة وهي حالة يائس فهذا أولى، وصرح القاضي عبد الصمد الحنفي في تفسيره إن مذهب الصوفية أن الإيمان أيضًا ينتفع به عند معاينة العذاب، ويؤيده أن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره صرح في «فتوحاته» بصحة الإيمان عند الاضطرار، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو غرغر المشرك بالإسلام لرجوت له خيرًا كثيرًا.
وأيد بعضهم القول بقبول توبة الكافر عند المعاينة بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قيل: وما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس وهي مشركة» ولا يخفى أن الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل القول الأول، وأجاب بعض المحققين عنها بأن مفادها أن قبول توبة المسوّف والمصر غير متحقق، ونفي التحقق غير تحقق النفي فيبقى الأمر بالنسبة إليهما بين بين، وأنه تعالى إن شاء عفا عنهما وإن شاء لم يعف وآية {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] تبين أنه سبحانه لا يشاء المغفرة للكافر المصر ويبقى التائب عند الموت من أي ذنب كان تحت المشيئة، وزعم بعضهم أنه ليس في الآية الوسطى توبة حقيقية لتقبل بل غايه ما فيها قول، إني تبت الآن وهو إشارة إلى عدم وجود توبة صادقة، ولذا لم يقل وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت تاب وعلى تسليم أن التعبير بالقول لنكتة غير ذلك يلتزم القول بأن التقييد بالآن مشعر بعدم استيفاء التوبة للشروط لأن فيه رمزًا إلى عدم العزم على عدم العود إلى ما كان عليه من الذنب فيما يأتي من الأزمنة إن أمكن البقاء، ومن شروط التوبة الصحيحة ذلك فتدبر.
{أولئك} أي المذكورون من الفريقين المترامي حالهم إلى الغاية القصوى في الفظاعة {أَعْتَدْنَا لَهُمْ} أي هيأنا لهم، وقيل: أعددنا فأبدلت الدال تاءًا {عَذَابًا أَلِيمًا} أي مؤلمًا موجعًا، وتقديم الجار على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بكون العذاب مهيئًا لهم، والتنكير للتفخيم، وتكرير الإسناد لما مر، واستدل المعتزلة بالآية على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين فبل التوبة، وأجيب بأن تهيئة العذاب هو خلق النار التي يعذب بها، وليس في الآية أن الله تعالى يدخلهم فيها البتة، وكونه تعالى يدخل من مات كافرًا فيها معلوم من غير هذه الآية، ويحتمل أيضًا أن يكون المراد أعتدنا لهم عذابًا أليمًا إن لم تعف كما تدل على ذلك النصوص، ويروى عن الربيع أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].
واعترض بأن أعتدنا خبر ولا نسخ في الأخبار، وقيل: إن {أولئك} إشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فلا إشكال كما لو جعل إشارة إلى الفريقين وأريد بالأول المنافقون، وبالثاني المشركون.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9